ترجمة العلامة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى

ترجمة العلامة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد خلق الله أجمعين وبعد:
فإن من حق أهل العلم علينا أن نذكر فضلهم، وأن نعرف بهم، وأن نشير إلى سيرهم المباركة حتى يكونوا قدوة لمن أراغ سبيلا الرشد، وتكون مناهجهم الطيبة وسيلة إلى المعرفة.
وممن قيضهم الله للعلم وطلبته، وهيأ بفضلهم سبلا للطلب. الشيخ العلامة أستاذ البلاغيين المعاصرين الأستاذ الدكتور محمد محمد أبوموسى أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالقاهرة

والحديث عن الشيخ حديث شجون ويمتد امتداد عمره المبارك، ويطول بطول مداد قلمه الذي أمد به المكتبة البلاغية والنقدية، يعرف ذلك من صحب الشيخ عمرا، وأخذ عنه وقرأ عليه ودرس عليه، وأفاد من علمه، واستنصحه وأفاد من فضله وخلقه وكرم طبعه ونبله.
والحق أن ما سنعرضه عن الشيخ ليس إلا القليل من فضل الشيخ وقدره ـــ كذلك نحسبه ــ ولعل الزمن يمنحنا بعضه لنقدم للشيخ ونقدم عنه فله الكثير من الفضل، نسأل الله لنا وله الثبات على الحق وأن ينفع به ويمد في عمره على طاعته وتوفيقه.

أبو موسى ، وما أدراك ما أبو موسى ؛ حين تُنصِت في خشوع إلى روعة إعجاز القرآن ، وتتحسّس في كلام المقتدرين آياتِ البيان ؛ وترى الكلامَ في سَمْتِه الأول ، وتتفرّس ملامحَ النص وتدخل في خصائص تراكيبه و دلالاتها ؛ وعجائب تصاويره و سماتها، وحين تسبر أغوارَ الشعر وتكتشف دقائقَه وتسلك مضائقه ؛ وحين تعبر جسرًا يصلك بعقول العباقرة من علماء الأمة وأدبائها لتطّلعَ على منابع عبد القاهر ؛ وكيف استَخرَجَ من علوم الأوائل الأواخرُ ، وكيف صُنِعَتِ المعرفةُ على يد غنيٍ قادر ٍ, أغمض عينيه عن كل نظرٍ حاسر، وأصمَّ أذنيه عن كل حكمٍ عابر ؛ ولم يغامر ، أو يقامر ، ولم يندب عند المصائب حظه العاثر ، بل مضى يصنع معرفته ، ويهب للقادمين من بني قومه موهبته ، يقرّب البعيد ، ويبشر بالمنهج الحق لكل جديد وتجديد ـ لا تملك إلا أن تُنصِت إلى أبي موسى وتتحسسَ ملامحَه وتتدسّسَ في خلجات نفسه ، وتُرَاوِحَ بين جهره وهمسه ، وتتفرّسَ ملامحَ منهجٍ لتجديد البلاغة وعلوم العربية ، ونهضةِ الأمة من كبوتها ، وقيامِها من عثرتها.


السيرة الذاتية

 ولد الأستاذ الدكتور محمد محمد حسنين أبوموسى في مصر سنة 1937م, وحفظ القرآن الكريم ودخل الأزهر ، ثم تخرج في كلية اللغة العربية سنة 1963م ، وكان من أوائلها وعين معيدًا بها .  حصل على درجة التخصص ( الماجستير ) سنة 1967م بتقدير ممتاز من كلية اللغة العربية, جامعة الأزهر .
 حصل منها على درجة العالمية ( الدكتوراه ) سنة 1971م.


 عين ( أستاذا مساعدا ) بالكلية سنة 1971م .

 رقي إلى درجة ( أستاذ مشارك ) سنة 1976م .
 رقي إلى درجة ( أستاذ ) بالكلية سنة 1981م .

 أعير من جامعة الأزهر إلى جامعة بني غازي في ليبيا من سنة 1973م – 1977م ، وطبعت له جامعة " بني غازي" كتابين هما ( التصوير البياني ودلالات التراكيب ).
 في عام 1977م رجع إلى العمل في جامعة الأزهر .
 في عام 1977م خرج أستاذا زائرا إلى جامعة أم درمان الإسلامية لمدة ثلاثة أشهر .
 في سنة 1981م أعير من جامعة الأزهر إلى جامعة أم القرى وبقي إلى سنة 1985م ، ثم رجع إلى الأزهر .
 عين رئيسا لقسم البلاغة سنة 1985م.
 اختير عضوا في اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة بقسم البلاغة بجامعة الأزهر سنة 1987م. أعير مرة ثانية من الأزهر إلى أم القرى 1994م وبقي فيها إلى الآن .


الإنجازات والمؤتمرات والندوات :


 الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه في جامعتي الأزهر وأم القرى.

 ناقش رسائل ماجستير ودكتوراه في جامعتي الأزهر وأم القرى ، وفي خارجهما ؛ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وجامعة الإمام محمد بن سعود ، والرئاسة العامة لتعليم البنات(سابقا)، وجامعة البحرين بدولة البحرين , وجامعة اليرموك بالأردن .
 شارك في منتديات فكرية؛ مثل مؤتمر النقد الأدبي الذي أقيم في البحرين سنة 1993م، وملتقيات نادي مكة الأدبي, و اثنينية الأستاذ الرفاعي بالرياض ، ونادي القصيم الأدبي ، فضلا عن محاضرات في المواسم الثقافية لجامعة أم القرى .


الكتب و البحوث :


 له عدد من البحوث المحكمة في مجلات الكليات العلمية في الأزهر وبني غازي وأم القرى ،و نشر مقالات شهرية في مجلات الوعي الإسلامي ( الكويت )،والثقافة العربية ( ليبيا) ،ومنبر الإسلام ( مصر) .


وله من الكتب :


1- البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري و أثرها في الدراسات البلاغيةالطبعة الثانية، مكتبة وهبة بالقاهرة .

2- خصائص التراكيب الطبعة السادسة, مكتبة وهبة بالقاهرة .

3- دلالات التراكيب دراسة بلاغية ، الطبعة الثالثة, مكتبة وهبة بالقاهرة .

4- قراءة في الأدب القديمالطبعة الثالثة, مكتبة وهبة بالقاهرة .

5- التصوير البياني دراسة تحليلية لمسائل البيان، الطبعة الخامسة, مكتبة وهبة بالقاهرة .

6- دراسة في البلاغة والشعرالطبعة الأولى, مكتبة وهبة بالقاهرة .

7- الإعجاز البلاغي دراسة تحليلية لتراث أهل العلم، الطبعة الثالثة مكتبة وهبة بالقاهرة .

8- القوس العذراء وقراءة التراث، الطبعة الأولى مكتبة وهبة بالقاهرة .

9- مدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني، الطبعة الأولى مكتبة وهبة بالقاهرة.

10- مراجعات في أصول الدرس البلاغي ، الطبعة الأولى، مكتبة وهبة بالقاهرة .

11- تقريب منهاج البلغاء لحازم القرطاجني ، الطبعة الأولى، مكتبة وهبة بالقاهرة .

12- شرح أحاديث من صحيح البخاري دراسة في سمت الكلام الأول ، الطبعة الأولى، مكتبة وهبة بالقاهرة .

13- من أسرار التعبير القرآني ، دراسة تحليلية لسورة الأحزاب الطبعة الثانية, مكتبة وهبة بالقاهرة .

14- الشعر الجاهلي ، دراسة في منازع الشعراء .مكتبة وهبة ,القاهرة – 1428/2007.


ملامح من منهج شيخنا أبي موسى

بقلم د . علي بن محمد الشعابي الحارثي أستاذ البلاغة والنقد الأدبي المساعد جامعة أم القرى


بسم الله الرحمن الرحيم
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11 المجادلة.
أبو موسى , وما أدراك ما أبو موسى ؛ حين تُنصِت في خشوع إلى روعة إعجاز القرآن , , وتتحسّس في كلام المقتدرين آياتِ البيان ؛ وترى الكلامَ في سَمْتِه الأول , وتتفرّس ملامحَ النص وتدخل في خصائص تراكيبه و دلالاتها ؛ وعجائب تصاويره و سماتها, وحين تسبر أغوارَ الشعر وتكتشف دقائقَه وتسلك مضائقه ؛ وحين تعبر جسرًا يصلك بعقول العباقرة من علماء الأمة وأدبائها لتطّلعَ على منابع عبد القاهر ؛ وكيف استَخرَجَ من علوم الأوائل الأواخرُ , وكيف صُنِعَتِ المعرفةُ على يد غنيٍ قادر ٍ, أغمض عينيه عن كل نظرٍ حاسر, وأصمَّ أذنيه عن كل حكمٍ عابر ؛ ولم يغامر , أو يقامر , ولم يندب عند المصائب حظه العاثر , بل مضى يصنع معرفته , ويهب للقادمين من بني قومه موهبته , يقرّب البعيد , ويبشر بالمنهج الحق لكل جديد وتجديد ـ لا تملك إلا أن تُنصِت إلى أبي موسى وتتحسسَ ملامحَه وتتدسّسَ في خلجات نفسه , وتُرَاوِحَ بين جهره وهمسه , وتتفرّسَ ملامحَ منهجٍ لتجديد البلاغة وعلوم العربية , ونهضةِ الأمة من كبوتها , وقيامِها من عثرتها .
والمقام لا يكفي لتعداد مناقبه , ولا للكشف عن بعض ملكاته ومواهبه ؛ ولكنّي سأقتصد لتلخيص بعض ملامح منهجه وسمات شخصيته العلمية في نظر فرعٍ يتصل بالشجرة, وهو إذْ أينع وأثمر ؛ فإنما يصف من الشجرة ما يصل إليه منها, وهو وإن كان يصف جلّ خصائصها فإنه لا يحسن وصفها على ما هي عليه وإن كان منها قد غُذِي و إليها نُمِي ؛ فقد امتدت ظلالها ,و اسّاقطت ثمارها , وتشاجرت أغصانُها , وعظم بنيانها.


مغارس الألفاظ:


فمن أهم ما بني عليه هذا البناء العظيم الالتفات إلى مغارس الألفاظ, ومنابع الأفكار , وكيف تستخرج الفكرة من الفكرة , وتتناسل الأفكار و تتكاثر ,وهي فكرة حيوية في تتبع مسائل العلم , وفي استشراف طرائق صناعة المعرفة ؛ فهذان هما الركنان المهمّان في بناء العلوم : فبهما تُرصَدُ الفكرة في أكثر من عقل توارد عليها , وهُدِي إليها , وتفاعل بها ومعها حتى أنشأها أو أنشأ مالم يكن فيها من قبل , وهذا نمط من التَّهَدِّي إلى الاتصال بالأفكار بوصفها كائناتٍ حية تولد وتنمو وتتكاثر , وتتأثر بالعوامل المحيطة , فالعلم لا ينفصل عن العالم , ومسائله لا تنفصل عن حياته , وحياة الفكرة جزء من حياة صاحبها , تتأثر بكل ما فيها من التفاصيل الدقيقة والمكونات العميقة ؛ يعرف هذا من كابد التدسّس في عقول الرجال , والتغلغل في تفاصيل الفكرة والمسألة من مسائل العلم , وتتبعها في مراحل حركتها وسكونها , وحيويتها وركونها , وقرن ذلك بالتلطف في الإنصات لسير العظماء من العلماء والأمراء والشعراء والنبلاء .
وهذا المنحى أصيل في التراث العربي الإسلامي ؛ ولذا لم تخل حقبة من حقب تاريخه من المؤلفات التي عنيت بتراجم العلماء وسير العظماء , كما لم تخل أيضا من مصادر تتبع مسائل العلم في كل فنّ , فقد كان الأوائل يدركون أن الرؤية المهيمنة على العلم لا يمكن أن تكون أقرب إلى النضج والكمال , مالم تحط بتاريخ العلوم وتاريخ الرجال .وقد قامت أكثر دراسات شيخنا أبي موسى على هذين الركنين : فقد تتبع الفكرة البلاغية ومسائل هذا الفن في كتبٍ مثل : "خصائص التراكيب " و" دلالات التراكيب" و " التصوير البياني " , وشيء مما في كتابه : دراسة في البلاغة والشعر " وغيرها . وتتبع حركة عقول العلماء وأفذاذ الرجال في كتب من مثل : " الإعجاز البلاغي , دراسة تحليلية لتراث أهل العلم " و " مدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني " , وكتاب " تقريب منهاج البلغاء لحازم القرطاجني" وبعض مباحث كتاب " دراسة في البلاغة والشعر ". وجمع بين الركنين في دراسات متعددة متنوعة من مثل : " البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية " و" شرح أحاديث من صحيح البخاري دراسة في سمت الكلام الأول " و " قراءة في الأدب القديم " ومباحث متعددة من كتبه التي سلف ذكرها .ونقل أستأذنا هذا المنحى الأصيل إلى دراسة الشعر والشعراء , كما فعل في دراسة العلم والعلماء , فشعر الشاعر صورة عنه وعن عصره الذي عاش فيه ؛ واهتم في هذا الباب على وجه الخصوص بفكرة " منازع الشعراء " والنمط الخاص لكل شاعر في التاتّي إلى فكرته وبناء صورته ؛ فشعر امرئ القيس لا يمكن إلا أن تدرك أنه من بحر امرئ القيس , ولا ينفصل عن شخصيته وتفاصيل حياته وهواجسه وأفكاره وخواطره و دقائق تفاصيل العصر الذي عاش فيه , وقل مثل ذلك في شعر زهير والنابغة ,فشعر هؤلاء من الجاهليين له خصوصية العصر الذي عاشوا فيه بكل ماله من مكوّنات , وكذا القول في شعر حسان وابن رواحه , وابن المعتز وبشار و أبي نواس و أبي تمام والبحتري والمتنبي .


دراسة تطور تراكيب الكلام:


وقد عني أستاذنا في هذا الجانب بفكرة شغلته كثيرًا وهي " دراسة تطور تراكيب الكلام في الشعر والنثر وفي كل ما يجري به اللسان " فكل نصٍ لابد أن يُرى عليه ميسم عصره ؛ والوصول إلى هذا لا يتأتّى عند شيخنا من طريق الحدس الذي يشعر به كل أحد حين يعرف أن هذا من كلام الجاهليين وهذا من كلام العباسيين , أو أن هذا من كلام أهل زماننا , ولكنه لا يتم إلا بأن " تَكتشفَ العناصرَ التي تمََيّز بها كلامٌ من كلام , وتُحدّدَ بدقة عناصر التطوير التي تُداخِل اللسان , من جهة بناء الجملة , وتراكيب الكلام , وليست من جهة الفنون البلاغية فحسب , ... وإن كان الأمران لا يتباعدان " فدراسة الفروق في ذلك بين كلام أهل زماننا وكلام الأوائل ـ على سبيل المثال ـ لايمكن تحصيلها من النظر في ثوابت الكلام مثل أصول تصريف الكلمات والجمع والتصغير والنسب ونحوها , أو من المعجم اللفظي , ولكنّ صناعة الكلام والمتكلم إنما تتحقق في أخص صفاتها وسماتها في الإسناد الذي به يصير المتكلم متكلما ؛ إذ لا يصنع المتكلمُ " الإسنادَ إلا بما في نفسه من معانٍ وصور وأخيلة وتراكيب ". ( مراجعات في أصول الدرس البلاغي ص 20).
وقد نثر أستاذنا لهذا المنحى " إشاراتٍ شديدة الإيجاز لمايتجه إليه النظر في دراسة الفنون البلاغية , سواء كانت في كلام العلماء الذين استنبطوا , أو في كلام الشعراء والكتاب الذين أسسوا هذا البيان " و بَيَّنَ " أنّ هذا التطور ليس مرتبطًا بتطور الحياة العقلية فحسب , وإنما هو جزء منها وثمرة من ثمارها , وليس له مجال يؤخذ منه إلا هذا التغيير الذي يداخل الحياة العقلية , وأن مزاولة هذا المبحث أو ذاك تفتح أبواباً ومسالك للوصول إلى دقائقه , وأن ذلك لن يستقيم إلا بمزيد من الجهد والصبر والانقطاع , وأنه شاقٌ وأنه مكابدة , وليس في الدنيا شيء له قيمة إلا وهو مؤسس على المكابدة والصبر وطول الانقطاع , وأن الجيل الذي يقوم بذلك لابد أن ينزعَ نفسَه من خدمة علوم عدوّه الألدّ , وتطويع العربية لها , أو تطويعها للعربية , وأن يغرسَ نفسه كلَّها ووقته كلَّه وجهده كلَّه في هذا اللسان , وشعرَه وأدبَه , وما استنبطه علماؤه الذين انقطعوا له , وأن يبذل مثل ما بذل هؤلاء , وسيتضح هذا حين يكون منا من يبذل ما بذل عبد القاهر , والزمخشري وأبو الفتح وغيرهم , أمّا قراءة الملخصات من الثقافات المختلفة , وخلط هذا بذاك , كبائع الأعشاب المقوية ؛ فهذا من اللغو والعبث والشعبذة ".


الإخلاص و الاتصال:


وواضح في كلام شيخنا ما أخذ به نفسه وحث عليه طلابه من أهمية الإخلاص في طلب العلم والانقطاع له وعمقِ الاتصال بتراث أمةٍ أنتجته عقولٌ صبرت وصابرت وكابدت وثابرت , في سبيل بناء المعرفة ونموها , وأن الحداثة الحقّة لا تكون إلا بالاندماج في هذا البناء المعرفي فهما ً وتحليلاً وتمثّلاً و وعيا ً قادراً على أن يضيف إليه شيئاً جديداً لا يتسق معه فحسب ؛ بل يتّحد على نحو ما تتحد الأعضاء في الجسد الواحد , إن هذه الوحدة العضوية في بناء المعرفة وصناعتها , تجعل المعرفة كائناً حياً ناميأً نمواً داخلياً لا يلغي تأثره بالعوامل الخارجية واسترفاده لها , ولكنه يرفض كل نشاز في شكله ومضمونه.


تشاجر العلوم:

ومن أهم ملامح منهج شيخنا ـ وهو ذو علاقة قوية بما سبق ـ تأكيده على ما يمكن أن نسميه " تشاجر العلوم " ؛وأخذ بعضها عن بعض , وهي فكرة أدركها سلفنا؛ فطبقوها عمليًا حين وجدنا العالم منهم يكاد يكون متخصصاً في أكثر من علم , وإن غلب عليه التفرد في علم أو أكثر من تلك العلوم , وقد كان لهذه الرؤية الشاملة في تلقّي العلم ومدارسته أثرٌ واضح في إثراء تجاربهم العلمية , وغنى مؤلفاتهم , وسعة أفقهم , ورسوخ قدمهم في مسالك الأفكار ودقة نظرهم في ما تقصد إليه الأبصار.ومن هذا الباب كان احتفاء شيخنا بضرورة النظر الشامل إلى التراث العربي الإسلامي, في علومه المختلفة , نظرًاً يتتبع الصلات والوشائج التي تقِفُك على تشاجر العلوم وكونها تسقى بماء واحد ؛ وتلتقي وتتحد في منهج واحد وإنْ بَدَتْ في الظاهر علومًا متعددة ؛ فاستنباط عبد القاهر في البلاغة من كلام من تقدموه مثل سيبويه وغيره , إذا ما استطعت أن تتغلغل في كيفية عمل عقله فيه وطريقة تهديه إلى ما استخرجه من علم جديد ـ في ضوء منهج الاستنباط في التراث الفقهي ـ فقد هديت إلى منهج متكامل ٍ " من الدرس والفهم والتدقيق والتمحيص , وقد كان هذا المنهج بتكاليفه الصعبة ظاهرًا ظهورًا بيّنًا في كلام عبد القاهر ". ( مدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني ص3,4).وشيخنا كَلِفٌ جدًا بفكرة صناعة المعرفة و امتدادها ؛ لتشمل كافة العلوم والمعارف والفنون العربية ؛ فهو واثق أنّ " أمثال سيبويه والخليل وأبي عليّ والسيرافيّ ومن في طبقتهم من الفقهاء ينطوي علمهم على بابٍ جليلٍ وهو بيان كيف كانوا يستخرجون علومهم " .


الدين والأدب :


ووَصْلُ علومِ الأدب بعلوم الدين من هذا الوجه يؤكد حقيقةً يؤمن بها شيخنا وهي " أن الثقافة والدين وجهان لحقيقة واحدة " . و " أنّ العلوم التي استنبطها علماء الإسلام في اللغة والأدب هي دين في صورة علم , وأنّ الثقافة النصرانية والآداب النصرانية هي (نصرانية ) في صورة معرفة , وأنّ شيوع علوم النصرانية في ديار الإسلام هي طلائع تبشير , وأن تغييب علوم الإسلام في ديار الإسلام هو تغييبٌ للإسلام " . ( مدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني ص 7,6).


كيف تنهض الأمم:

وممّا لم يَخْلُ منه كتابٌ من كتب شيخنا ـ تنبيهُهُ على أنّ من " الحقائق المقررة أنّ نهضاتِ الأمم لا تكونُ إلا بعقولِ أبنائها,واجتهاداتِهم الخلّاقةِ,وأنّ تجديد العلوم والمعارف ليس له إلّا طريقٌ واحدٌ,وهو أنْ نُعْمِلَ عقولَنا في هذه العلوم والمعارف ,وأنْ نستخرجَ مضموناتِها المضمراتِ في كلماتها,أو التي هي مندسّةٌ مُبْهَمةٌ في نفوس كاتبيها ,غمغمتْ بها آثارهم غمغمةً تائهةً,لا يلتقطها إلا الباحث الدَّرِب ". (القوس العذراء وقراءة التراث ص 5).وقد حرص شيخنا في غير موضعٍ من كتبه على بثِّ هذه الحقيقة ,مؤكِّدًا على أنه " لم تُعْرَفْ أُمّةٌ بَنَتْ حضارتَها بعقول غيرها,ولا جدَّدَتْ معارفَها بمعارف غيرها ". وأنّه لن يكون هناك نموٌ معرفيٌّ إلّا " إذا كان الامتدادُ امتدادًا من داخل الحياة الفكرية والأدبيّة ,يتناسلُ بعضُهُ من بعض,كما يتناسلُ جيلٌ من جيل ,ولن يكون هناك تطوّرٌ إلا إذا استُخرِجتْ هذه المرحلةُ مما قبلها ,ولنْ يتمَّ هذا إلا إذا دارتْ عقولُنا وقلوبُنا في هذا الفكر الذي بين أيدينا ,ودارتْ به,وعانَتْ تحليلَهُ و الاستنباطَ منه,وكانت هذه المادةُ هي مادة الدرسِ في حلقات العلم في كل جامعة ,ومادة النظر بين يديّ كلِّ كاتبٍ ". ( القوس العذراء وقراءة التراث ص 6,5).


أبو موسى ودراسة النص:


وقد تعدد احتفاء شيخنا بالنص البلاغي العلمي والأدبي, وتنوّع تنوّعًا أثرى دراساته وكتبه ؛فقد شملت كتبه دراسة النصوص البلاغية ونصوص العلم وكان يقصد فيها إلى تمييز مراتب الكلام, من النص العالي المعجز ,إلى كلام المقتدرين من ذوي اللسن؛فقام بعضها على دراسة النص القرآني وما يتّصل به ,كما ترى في كتابه (البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية ) وكتابه (من أسرار التعبير القرآني ، دراسة تحليلية لسورة الأحزاب),وكتابه ( الإعجاز البلاغي ) ومباحثَ من كتابه (دراسة في البلاغة والشعر ) ,وقامت بعضُها على دراسة الحديث الشريف كما تجد في كتابه (شرح أحاديث من صحيح البخاري , دراسة في سمت الكلام الأول ) , ومباحث متفرقة من كتبه الأخرى . وقامت بعضُها على دراسة نصوص الشعر ,كما تجد في كتابه ( قراءة في الأدب القديم ), وفي مواضع متفرقة من كتبه ( دراسة في البلاغة والشعر, والتصوير البياني ,وخصائص التراكيب , ودلالات التراكيب ,وهذا الأخير هو عينه التصوير البياني في طبعةٍ منقحة له ,وكان الشيخُ قد أصدر كتاب الخصائص باسم دلالات التراكيب ,في طبعة بنغازي ,ثمّ أخلص الخصائص لعلم المعاني , ودلالات التراكيب لعلم البيان , ثم أصدر التصوير البياني ) ,وعني الشيخ على نحوٍ خاص بالشعر الجاهلي ,الذي أصدرُ فيه كتابًا جديدًا,يتناول فيه فكرة (منازع الشعراء ) ,و هي التي أشرتُ إليها في صدر الكلام,وعنوان كتابه هذا : ( الشعر الجاهلي دراسة في منازع الشعراء).وعُرِفَ الشيخُ بفهمه العميق للشعر ,لاسيما الجاهلي منه,وهذا من أهم سماته!و دراسة شيخنا للنص وما فيه من خصائص التراكيب ودلالاتها ـ يمكن أن تكون محل نظر باحث يُفرد لها بحثًا مستقلًا !وقد قامت كثيرٌ من الرسائل العلمية التي أشرف عليها حفظه الله على المنهج البلاغي الرصين في استخراج معاني الكلام من مباني المرام.


منهجه في التدريس :


من أهم ما يميّز الشيخ أنه لا يعتمد في تدريسه طلابه على الملخصات والمذكرات ؛كما يفعلُ الكثرة الكاثرة من أساتذة الجامعات! ولكنه حريصٌ على أن يصلَ طلابَه بكتب أهل العلم ,فكانت نصوص عبد القاهر والسكاكي والقزويني بين يدي طلابه في المرحلة الجامعية! و للشيخ نفَسٌ طويلٌ في الصبر على شرح مسائل العلم,و وصل طلابه بمواطن الجمال في نصوص القرآن والشعر.وممّا يميّز الشيخ أنّه يعرف طلابَه كما يعرف الوالدُ أولاده؛فيعرف النبيه من الخامل , ويعطي كلًّا حقّه من الاهتمام والعناية.وكان بيتُ الشيخ وما زال منارةَ علمٍ لبعض طلاب الشيخ يجتمعون عنده بين الفينة والفينة للاقتباس من نوره, والتحاور معه في مسائل العلم ومشكلات الثقافة!والشيخ يرعى طلابه رعاية الأب لأبنائه ؛فهو لا يكتفي بدور المعلم فحسب؛بل تجده مربيًا حازمًا في موضع الحزم ,ليّنا حيث يكون اللين,مرشدًا ناصحا, محفّزًا: غاديًا ورائحا؛فلا تكاد تلتقي به في مكانٍ دون أن يحادثك في مسألةٍ من مسائل العلم أو بابٍ من أبوابه, وكنتُ حيثما لقيتُه لقيتُ عِلْمًا ونَفْعا وأُنْسا.


الشيخ والإعلام :


ولم أجد في الشبكة من ترجم له أو ذكره ذكرًا يليق بمكانه من العلم!
وقد طلبتُ من الشيخ أن يدلّني على صحيفة أو جهةٍ إعلامية كان لها سبق اللقاء به فتعجّب من سؤالي قائلًا: لابد أنّك تتحدث عن شخصٍ آخر, وذكر لي قصة شيخٍ من تميم كان يمشي ومعه غلامٌ من قرابته ؛فرأى النّاس يحتفلون بالشيخ ويجلّونه؛ففرح الغلام بذلك ؛فبادره الشيخ قائلًا: والله إني لحزين لما ترى ؛لأن قومي لم يجدوا غيري ليكرموه فكرّموني!
ولمّا فرغ شيخي من القصة قال لي: ما أنا إلا رجلٌ يقرأ كلَّ ما يقع في يده,ثمّ لم يعمل بعد ذلك شيئا! ؛فتذكرتُ ما جاء في سيرة شيخه العلّامة محمود شاكر من شغفه بالقراءة وحياته بها؛قلتُ: لقد بنيتَ جيلًا أحييت به ما درس من شؤون علوم البلاغة والأدب! ضحك أستاذي ضحك من لسان حاله يقول : إذا أجدبتِ الأرضُ رُعي الهشيم!
قلتُ : هكذا هم العظماء لا يرون أنّهم في القمة ؛لأن مطامح نفوسهم ترى ماهو أبعد منها!


وأخيرا ننصح كل مسلم بقراءة مقدمات كتب هذا العالم الجليل بارك الله في علمه وجهده، فهي علامات على الطريق، وكتبه كلها من مطبوعات مكتبة وهبة بالقاهرة.
منها 


تعليقات